السبت، 29 سبتمبر 2012

الجوانية.. عثمان أمين





 د.خالد حربي: مصر
 
الجوانية فلسفة أبدعها فيلسوف مصري عربي معاصر، هو عثمان أمين، ولد عام 1908، وتوفي عام 1978، وما بين الميلاد والوفاة حياة علمية مليئة بالبحث الشغوف، والدرس الدؤوب، والتأليف الماتع، والإبداع الأصيل.
قدم عثمان أمين للفكر العربي المعاصر إنتاجاً فكرياً غزيراً شمل معظم مراحل الفكر الفلسفي المتعارف عليها: اليونانية – الإسلامية (الوسطى)– الحديثة، فضلاً عن مرحلة مبكرة تخرج دائماً من هذا التصنيف الفكري الفلسفي العالمي، وهي مرحلة الحضارة المصرية القديمة، تلك التي أبدع عثمان أمين في بيان فضلها على الحضارات الأخرى.
ومنذ أن تناول عثمان أمين موضوعات تلك المراحل بالدرس، والتأليف، كان يدور في خلده البحث عن فلسفة جديدة، فلسفة توقظ أمة على حد قوله. والسؤال الأول الذي كان يشغله كثيراً ويؤرقه أحياناً هو: ألا توجد فلسفة حياة تجاوز الحدود الضيقة، حدود المذاهب المغلقة التي تدرس في الكتب والجامعات، فيمتد أثرها إلى الشعب وإلى الجماهير؟ وبعبارة أخرى: ألا توجد فلسفة تضع لنا مبادئ عاملة لتربية جدية، فتوقظ الشعور الوطني في أبناء الأمة، وتجعلهم يأبون حياة الضيم والمذلة، ويحققون حياة الحرية والكرامة؟.
وفي سبيل الاهتداء إلى إجابات على هذه التساؤلات، أمتد فكر عثمان أمين عبر تاريخ الفكر الفلسفى، لينتهي قائلاً:
المحاولات الفلسفية التي أقدمها اليوم إلى الجمهور الفلسفي في بلاد الشرق العربي قد تناولت موضوعات مختلفة، ومثلت اتجاهات متنوعة، وامتدت إلى فترات متباعدة. ولكني أستطيع أن أقول إنها جميعاً، على الرغم ما بينها من تفاوت ظاهر، قد ألف بينها إحساس واحد، وإلهام واحد، وغرض واحد: الابتهاج بطلب المعرفة والسعي إلى سبيل الحق، والاتجاه إلى قيم الروح. إنها إذن (الجوانية).
فما الجوانية؟ وما مفهومها؟ يجيب عثمان أمين بأنها عندي (فلسفة) وخير من هذا (طريقة في التفلسف)، ولا أقول إنها (مذهب) لأن المذهب شأنه أن يكون مغلقاً قد رُسمت حدوده مرة واحدة، وحُبست تأملاته في نطاق معين، بل هي تفلسف مفتوح على النفس وعلى الدنيا، متعرض لنفحات السماء في كل لحظة، وطريق مبسوط أمام الوعي ينتظر (السالكين) إلى يوم الدين. 
فالجوانية إذن فلسفة تحاول أن ترى الأشخاص والأشياء رؤية روحية، بمعنى أن تنظر إلى (المخبر) ولا تقف عند (المظهر)، وأن تلتمس (الباطن) دون أن تقنع (بالظاهر) وأن تبحث عن (الداخل) بعد ملاحظة (الخارج)، وأن تلتفت دائماً إلى (المعنى) وإلى (الكيف) وإلى (القيمة) وإلى (الماهية) وإلى (الروح) من وراء (اللفظ)، و(الكم)، و(المشاهدة) و(العرض) و(العيان).
والطريق إلى ذلك كما يرى عثمان أمين، هو تقديم (الذات) على (الموضوع)، والفكر على الوجود، والإنسان على الأشياء، و(الرؤية) على (المعاينة) والتمييز بين الداخل والخارج، وبين الكيف والكم، وبين بصر العقل وبصر العين. وذلك ما عبر عنه الإمام علي -رضي الله عنه- في قوله (ليست الرؤية كالمعاينة مع الإبصار: فقد تكذّب العيون أهلها، ولا يغش العقل من استنصحه). وقد شرح الإمام محمد عبده هذه العبارة في تعليقه على (نهج البلاغة) فقال: (الرؤية: إعمال العقل في طلب الصواب، وهي أهدى إليه من المعاينة بالبصر: فإن البصر قد يكذّب صاحبه، فيريه العظيم البعيد صغيراً، وقد يريه المستقيم معوجاً كما في الماء. أما العقل فلا يغش من طلب نصيحته وليس العلن قاصراً على شهود المحسوس. 
يتضح من ذلك أن الجوانية عند عثمان أمين هي طريقة روحية تحاول سبر أغوار الباطن، وعدم الاكتفاء بالوقوف عند الظاهر، وألا تقف عند حدود الكم والمشاهدة والعرض والعيان، بل تنطلق من هذه المعاني الظاهرة إلى المعنى، والكيف، والقيمة والماهية، أو بالأحرى إلى الروح. وهنا يأتي السؤال: ماذا تطلب الجوانية؟.
يجيب عثمان أمين بأن: الجوانية إذ تطلب الحقيقة فيما وراء الواقع لا تزعم لنفسها القدرة أو الرغبة في امتلاكها، لأن الحقيقة متى امتلكناها، أو خيل إلينا أننا امتلكناها، فقدت مشروعيتها في أن تكون حقيقة، أي أن تكون هذه القوة الروحية التي تستحث الإنسان على الابتكار المتجدد الواعي والسعي الموصول إلى ما ينبغي أن يكون. 
على أن الحقيقة إذا تحددت بحدود برانية أصبحت بذلك (واقعة) وجاز لها أن تكون (موقفاً) متجمداً في سلسلة من الواقعات، يحتاج إلى من يدافع عنه وينتصر له. والحقيقة لا تفتقر إلى دفاع من الخارج: إن آيتها وبرهانها كامنان فيها، وإنها (فكرة) تقوم في لب الوجود الواقع، وهي أشبه بأن تكون واقعة مثالية: ومتى لاحت للمرء على هذا النحو استطاع أن يستشف من ثنايا واقعه المثالي هذا، غاية أخرى أو مثلاً أعلى جديداً، يصبح -بدوره- مناطاً لسعي الإنسان الجواني. 
لكن إذا حاول الإنسان السعي نحو هذا المسعى الجواني الذي يدعو إليه عثمان أمين، أفلا يوجد نوع من المعرفة، أو نوع من الأدوات يساعد الإنسان في مسعاه هذا؟
يجيب عثمان أمين بأن: حياتنا الجوانية كالسيمفونية الموسيقية، فكما أن الإنسان لا يستطيع أن يفهم سيمفونية من مجرد الحديث عنها، بل يلزم أن يتعاطف معها، فكذلك لا نستطيع أن نسبر أغوار الحياة الجوانية، مهما استعنا بالأدوات العلمية، إلا بأن نحياها بأنفسنا وأن نتحمل مسؤولية معاناتها: فكما أن أحداً لا يستطيع أن يموت لنا فإن أحداً لا يستطيع أن يحيا أو أن يفكر لنا كما يقول هيدجر، وهذا التعاطف العقلي أو الجهد (الجواني) هو عندنا ضروري لكل بحث قويم ولكل ثقافة عميقة ولكل مسعى صادق، وبدونه يمتنع على الباحث أياً كانت قدرته أن ينفذ إلى الشخصية التي يريد أن يتعرض إليها أو أن يفهم الموضوع الذي يريد أن يعالجه فهماً كاملاً.
فالجوانية فلسفة تستند على تزكية الوعي الإنساني وممارسة الحرية النفسية، وتسعى إلى تعميق فهمنا للمقاصد والمعاني والقيم. وهى بهذا الاعتبار تمارس الوظيفة الفلسفية على الأصالة: التماس اللب والمبدأ والكيف والحق. إنها لا تقيس حياة الإنسان الفكرية والمعاملة بالمقاييس البرانية، مقاييس الكم التي تقاس بها المادة، كما أنها لا تقنع بمناهج التحليل والحساب والإحصاء: إن هذه إن يسّرت لنا أن نقف على الكم والمقدار، فإنها تعوقنا دون ريب على استكناه الفكر وسبر أغوار الكيف. 
وينظر عثمان أمين إلى الفلاسفة الروحيين كهداة حقيقيين للإنسانية، يدعوننا دائماً إلى الاعتقاد بأن للكون إلهاً لا متناهياً، واسع العلم والقدرة والرحمة، وأن العالم لا يتحرك مصادفة واعتباطاً، بل يسير كل شيء فيه إلى أحسن مما كان، ولا يمكن أن تكون خاتمة الدراما الإنسانية إلا استكمال السعادة مع تحقيق السلام. وبهذه النظريات المشرقة المتفائلة يمسح الفلاسفة على جراح نفوسنا، ويهدئون من ثائرة خواطرنا وكأنهم يدعوننا إلى أن نمد البصر إلى السماء ذات النجوم، فهنالك فوق ظلام القهر والشر والمادة تتلألأ معاني الحرية والحق والكمال، وتلك المعاني هي النجوم اللوامع التي تضيء للإنسانية حياتها.
وبالبحث عن الأسس والمبادئ التي قامت عليها الجوانية في كتابات عثمان أمين ، نراه يؤصّل معنى الجوانية في الفكر الإسلامي، وابتدأ بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فالصورة التي يرسمها القرآن والحديث لحياة الإنسان على الأرض صورة دقيقة رائعة، صورة مثالية وواقعية معاً. إنها صورة حياة ملؤها الجهود الموصولة للإصلاح الداخلي، أي: الإصلاح الروحي، والإصلاح الخارجي، أي الإصلاح المادي. وقوامها العمل لتزكية وعي الإنسان لذاته وصلاته بغيره وتحقيق رسالته على الأرض. وإصلاح النفس معناه: إصلاح العقيدة والتغيير الجواني أصعب جداً من التغيير البراني، لأن الأول منصب على تغيير الأخلاق والعقليات، في حين أن الثاني ينصب على تغيير المراسم والأشكال والنظم الخارجية، اجتماعية كانت أو سياسية أو اقتصادية.
والقرآن الكريم حافل بالآيات البينات المعبرة عن هذا النظر الجواني النافذ إلى جوهر الأشياء والأشخاص، والفرق الدقيق بين وجهين متعارضين في الفهم والسلوك: نراه يتحدث عن المعاني الأساسية في العقيدة الإسلامية، فينبغي على بعض المسلمين الاهتمام ببرانيتهم المتمثلة في وقوفهم في الفهم عند الأعراض الخارجية والمشاهد المحسوسة، ومن ثم ظهورهم بمظاهر الإيمان والبر والتقوى وأداء الفرائض، وينبههم إلى أن هداية الدين القويم لا تتحقق إلا باستشعار معانيه الصحيحة العميقة. فقوله تعالى (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (البقرة:177), وقوله سبحانه: (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى (البقرة:263),  يفيد إنكار الفهم البرانى للبر والصدقة، وتأكيد معناها الجواني الأصيل. وقس على ذلك قوله جلّ وعلا: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات:14),  وقوله تبارك وتعالى: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) (الحج:37).
إن آيات القرآن الكريم ظهرت لتخاطب قوم الرسول صلى الله عليه وسلم بلسانهم، وهو لسان عربي مبين، (قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الزمر:28). وهذا يقتضي أن يخاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بلسانهم، أي بالأسلوب العربي الذي يفهمونه. وتتركز أساليب المعرفة في صنفين، الأول: وهو الأسلوب الغيبي بمستوياته من الوحي والإلهام، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه الأسلوب الجواني. والأسلوب الآخر هو الأسلوب الفعلي بمختلف مستوياته من البصر والنظر والتفكير والعقل، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه الأسلوب البراني. 
وقد عبر النبي العربي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى العميق في كثير من أحاديثه، فقال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) (صحيح مسلم كتاب اللباس)، فالتقابل هنا واضح صريح بين المظهر والمخبر، وبين العرض والجوهر. وقوله صلى الله عليه وسلم: (كم من قائم حظه من صلاته التعب والنصب)، وقوله: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة إلى أن يدع طعامه وشرابه) (صحيح البخارى كتاب اللباس)، وقوله: (الصوم جنة) إنما يفيد أن الصلاة على حقيقتها خليقة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأن الصوم الصحيح هو الإمساك عن إيذاء الناس بالقول أو الفعل.
هذا فضلاً عن الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أشار لفظاً إلى الجوانية، حيث: (روى عن الحارس الهمداني، عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي، ما من عبد إلا وله جواني وبراني، بمعنى سريرة وعلانية، فمن أصلح جوانيه أصلح الله برانيه، ومن أفسد جوانيه أفسد الله برانيه. وما من أحد إلا وله صيت في أهل السماء، فإذا أحسن وضع الله له ذلك في الأرض، وإذا ساء صيته في السماء وضع له ذلك في الأرض).
ووضح أن معنى الكلمتين في الحديث المروي عن الإمام علي، يدل على معنى الباطن والظاهر، والداخل والخارج، والمستتر والمعلن في حياة كل إنسان. 
ومن روائع التمثيل للنظر الجواني قول النبي عليه الصلاة والسلام في استبعاد الفهم البراني لمعنى الحرية الإنسانية، والتنبيه إلى ضرورة تقييدها إذا كان في إطلاقها توقع الإضرار بالغير: (إن قوماً ركبوا في سفينة فاقتسموا، فصار لكل منهم موضع، فنقر أحدهم موضعه بفأسه، فقالوا له: ما تصنع قال: هو مكاني أصنع فيه ما شئت، فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا).
ويؤكد عثمان أمين على أن المثل الأعلى للأخلاق الإسلامية هو في آخر الأمر الإرادة الجازمة التي تقتضى مجاهدة النفس والسيطرة عليها وقمع شهواتها، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى, فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات:40-41). وقال: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى, وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى,  ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى) (النجم:39-41). وقال جلّ وعلا: (لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (الأنعام:127). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تابعاً لما جئت به). 
وتعريف النبي للمجاهد والمهاجر تعريف يشير إلى أهمية العنصر النفسي الجواني في تحقيق المعاني الدينية تحقيقاً صحيحاً، قال صلى الله عليه وسلم: (المجاهد من جاهد نفسه) وقال: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه). ولا ريب أن جهاد النفس -وهو جهاد جواني- أصعب من جهاد الغير، ولذلك سماه الرسول (الجهاد الأكبر): لأنه يقتضي عملاً دائباً وجهداً متواصلاً لمغالبة هوى النفس.
والقرآن يعتد أكبر اعتداد بالنية التي صدرت عنها الأفعال، ويلح على الإخلاص المصاحب لإقامة الشعائر، ويرى أن فعل الإنسان إذا ساورته شبهة باعث من بواعث العُجب أو الأنانية أو الرياء تجرد عن الحقيقة وأصبح مظهراً أو زيفاً، قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11). وقال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) (الأحزاب:5).
والنبي صلى الله عليه وسلم دائم الذكر والتنبيه على أن القيمة العليا إنما تكون للعنصر الجواني في الأفعال، وهو العنصر المتمثل في الإيمان والصدق، والإخلاص، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى..) (صحيح البخارى كتاب النية).
وإن ضمير الإنسان ليشهد عليه وإن يكن موقفه أمام الناس سليماً. أما الرياء وإرضاء الناس فيسميه النبي بالشرك الأصغر.. فالقصد الحقيقي والنية الجوانية هما المحك الصادق للحكم على الأشخاص والأشياء، وهما معيار القيمة في الأقوال والأفعال. قال تعالى: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) (الحج:37). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). وفى ذلك وغيره مـن الكتاب والحديث مصداق لذلك المقياس الروحي الذي يتعارض مـع المقاييس الحسيـة القائمة على الكم والمقدار.
والأخلاق الإسلامية باتخاذها من رقابة الضمير أساساً لها قد جاوزت ملابسات الزمان والمكان، وسمت إلى منزلة أضحت فيها تشريعاً إنسانياً ورحمة شاملة لأولئك الذين فقدوا أساس الهداية، وضيقوا أسباب الوجود، فكانت حياتهم حياة برانية يعيشون على خلاف مع أنفسهم.
ولم يكتف عثمان أمين باستلهام واستشفاف معنى (الجوانية) من القرآن والسنة، بل تراه يبحث عنه، ويفرق بين (الجوانية) و(البرانية) لدى الصحابة والتابعين، والفقهاء، والطوائف الإسلامية، والمفكرين الإسلاميين بصفة عامة. ويمكن الوقوف على مؤيدات ذلك فيما يلي:
شهد شاهد عند عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- فقال له عمر: (ائتني بمن يعرفك، فأتاه برجل فأثنى عليه خيراً، فقال له عمر: أأنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال: (فكنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: فعاملته بالدينار والدرهم؟ قال: لا، قال: أظنك رأيته قائماً في المسجد يهمهم بالقرآن، يخفض رأسه طوراً، ويرفعه آخر. قال: نعم، قال عمر: (اذهب فلست تعرفه، ثم قال للشاهد: اذهب فأتني بمن يعرفك).
ومغزى هذه الواقعة جلي لا خفاء فيه: أن هناك فرقاً كبيراً بين البراني والجواني لأن حركات النفس شيء غير حركات الجوارح، فالوقوف في المعرفة عند ملاحظة الظاهر مرادف للجهل ومؤد إلى الخطأ في كثير من الأحيان.
وصور أخرى للبرانية المتمثلة في التصرفات الآلية والتقييد بالحرفية: مرض صديق لحامد بن العباس، فبعث ابنه إليه يعوده وأوصاه: يا بني إذا دخلت فاجلس في أرفع المواضع، وقل للمريض: ما تشكو؟. فإذا قال كذا وكذا، فقل له سليم إن شاء الله، ثم سله: من يعودك من الأطباء؟ فإذا قال: فلان، فقل ميمون، ثم سله: ما غذاؤك؟ فإذا قال: كذا وكذا، فقل: طعام محمود. فذهب، ولما دخل على العليل رأى بين يديه منارة، فجلس عليها لارتفاعها، فوقعت على صدر العليل، فأوجعته، ثم قال للمريض: ما تشكو؟ فقال: أشكو علة الموت، فقال: سليم إن شاء الله، ثم سأله: ومن يجيئك من الأطباء؟ قال: ملك الموت. فقال: مبارك ميمون، فما غذاؤك؟ قال: سم الموت، قال طعام طيب محمود.
واضح أن مثل هذه الصورة (برانية صارخة) تأتي من تمسك صاحبها بالحرفية، وعدم الخروج عن النص، مهما تراءى له من تغير في الموقف، وتلك صورة برانية تشير وتؤكد إلى أن نقيضها لابد وأن يكون (جوانية).
ويبين إمام التابعين الحسن البصري أن حقيقة الإيمان (جوانية)، ولا يصيبها المرء حتى يفتش وينقي ما بداخله، فلا يعيب الناس بعيب هو فيه، (فيا بن آدم إنك لا تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب من نفسك فتصلحه، فإذا فعلت ذلك لم تصلح عيباً إلا وجدت عيباً آخر لم تصلحه، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك).
ويظهر معنى (الجوانية) كثيراً في نصائح البصري، وخاصة المتعلقة منها بالقلوب والأنفس، ومنها قوله: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، وإنها تنازع إلى شر غاية، وإنكم إن لم تقاربوها لم تبق من أعمالكم شيئاً فتصبروا وتشددوا فإنما هي ليال تعد، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت، فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم، إن هذا الحق أجهد الناس وحال بينهم وبين شهواتهم، وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضله ورجا عاقبته. وقال: إن النفس أمارة بالسوء، فإن عصتك في الطاعة فاعصها أنت في المعصية.
ويروى عن الإمام أبي حنيفة –رضي الله عنه- أنه كان يوماً في حلقة الدرس بين تلاميذه، وكان من عادته أن يجلس بينهم جلسة (مريحة) باسطاً رجليه، لأنه لم يكن يستطيع أن يثنيهما من مرض أو من إعياء، فدخل عليه في درسه ذات يوم رجل مهيب الطلعة، أبيض اللحية، كبير القامة، فضم أبو حنيفة رجليه حين وقع بصره عليه، وواصل درسه لتلاميذه -وكان الدرس في موعد صلاة الصبح. فما كان من الشيخ الوقور إلا أن قاطع أبا حنيفة سائلاً: (ولكن ما العمل إذا طلعت الشمس قبل الفجر) ؟. فكان جواب أبي حنيفة جواباً جوانياً حاسماً، إذ قال: (العمل أن أبا حنيفة يبسط رجليه ويحمد الله)! ودلالة هذا الجواب واضحة: فإن أبا حنيفة حين عرف حقيقة الرجل، أي حين اطلع على جوانيه من سؤاله، لم يخدع ببرانيه، فأعفى نفسه من احترامه.
إن مثل هذه الصورة إنما توضح بجلاء أن الجوانية تبرز عدم الانخداع بالمظهر الخارجي، وأن الحكم على الإنسان لابد وأن ينبع من محاولة التعرف عما يدور بداخله أو كما قال عمر بن الخطاب: تكلم حتى أعرفك.
ويذهب عثمان أمين إلى أن الفرق بين ما أسماه (البراني) و(الجواني) قد جلاه الغزالي من قبل بتحليل نفسي دقيق وبيان فلسفي عميق يندر أن تجد في أي أدب من آداب العالم قديمة وحديثة ما يقاربه في اللطافة والدقة والغزارة. نراه في (معارج القدس) يشير إلى شدة الاختلاف بين مقاييس الأبدي ومقاييس الزماني، أو بُعد الهوة بين المعرفة المكانية البرانية وبين المعرفة الكشفية الجوانية، فيقول: (وكيف يقاس الدوام الأبدي بدوام المتغير الفاسد؟ وكذلك شدة الوصول: فكيف يكون ما وصوله بملاقاة السطوح والأجسام بالقياس إلى ما وصوله بالسريان في جوهر الشيء، كأنه هو بلا انفصال، إذا العقل والمعقول واحد وقريب من الواحد). ونراه كذلك في (مشكاه الأنوار) يوازن بين عين البصر وعين الروح، فيقول بأن البصر لا يدرك ذاته، ولكن الروح مدركة لذاتها. والبصر لا يرى البعيد كما يرى القريب أو لا يرى من وراء حجاب، في حين أن الروح تكشف حقائق الأشياء وترفع عنها الحجاب، والبصر إنما يدرك في الأشياء ما ظهر منها والروح تدرك كنهها وحقيقتها، والبصر لا يرى إلا جزءاً يسيراً من الوجود، في حين أن الروح هي الوجود بأسره.
والقلب موضع نظر رب العالمين، فيا عجباً لمن يهتم بالوجه الذي هو منظر الخلق، فيغسله وينظفه من الأقذار والأدناس، ويزينه بما أمكنه، لئلا يطلع عليه مخلوق على عيب، ولا يهتم بالقلب الذي هو محل نظر رب العالمين، فيطيبه ويزينه كيلا يطلع الرب جلّ ذكره على دنس وشين وآفة وعيب، بل يهمله بفضائح وأقذار وقبائح، لو اطلع الخلق على واحد منها لهجروه، وتبرؤوا منه وطردوه.
والتقوى صفة القلب، فيجب أن تكون أعمال القلب على الجملة أفضل من حركات الجوارح، وأن تكون النية من جملتها أفضل لأنها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له. والغرض من الأعمال بالجوارح أن يعوّد القلب إرادة الخير ويتأكد فيه الميل إليه ليفرغ من شهواته الدنيا ويكب على الذكر والفكر، فالمطلوب من الطاعات كلها هو تغيير القلوب، فلا تظن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضاً من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب، فإن من يجد في نفسه تواضعاً واستكان بأعضائه وصورها بصورة التواضع، تأكد تواضعه، ومن وجد في قلبه رقة على يتيم فإذا مسح رأسه وقبله، تأكدت الرقة في قلبه، ولهذا لم يكن العمل بغير نية مفيد أصلاً، لأن من يمسح رأس يتيم وهو غافل بقلبه، لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه لتأكيد الرقة. وكذلك من يسجد غافلاً وهو مشغول الهم بأعراض الدنيا، لم ينشر من جبهته ووضعها على الأرض أثر إلى قلبه يتأكد به التواضع، فكان وجود ذلك كعدمه، وما ساوى وجوده عدمه بالإضافة إلى الغرض المطلوب منه يسمى باطلاً، فيقال العبادة بغير نية باطلة.
رأى عثمان أمين مع الغزالي: أن القلب ملك مطاع ورئيس متبع والأعضاء كلها له تبع، فإذا صلح المتبوع، صلح التابع، وإذا استقام الملك، استقامت الرعية، بيّن ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب) خزانة كل جوهر لعقد نفيس، وكل معنى خطير، أولها العقل، وأجلها معرفة رب العالمين، ثم النية الصالحة في الطاعات، ثم أنواع العلوم والحكم التي هي شرف العبد، وسائر الأخلاق الشريفة والخصال التي بها تفاضل الرجال.
وكذلك تبصرة الإنسان بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة تخف عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه، فمن أراد أن يعرف نفسه فله أربع طرق عند الغزالي: الأولى: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته في مجاهدته، وهذا شأن المريد مع شيخه والتلميذ مع أستاذه، فيعرفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه وطريق علاجها. الثانية: أن يطلب صديقاً بصيراً متديناً فينصبه رقيباً على نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله، فما كره من أخلاقه وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبهه عليها، فكهذا كان يفعل الأكياس والأكابر من أئمة الدين، فكان عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه) يقول: رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي، وكان يسأل سلمان عن عيوبه، فلما قدم عليه قال: ما الذي بلغك عني مما تكرهه، فاستعفى، فألح عليه، فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وأن لك حلتين حلة بالنهار وحلة بالليل، قال وهل بلغك غير هذا؟ قال لا، فقال: أما هذان فقد كفيتهما. وكان يسأل حذيفة قائلاً له: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المنافقين، فهل ترى علىّ شيئاً من آثار النفاق، فهو على جلالة قدره وعلو منصبه هكذا كانت تهمته لنفسه. الطريق الثالثة: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه، فإن عين السخط تبدئ، ولعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه، إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدو وحمل ما يقوله على الحسد، ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه، فإن مساوئه لابد وأن تنتشر على ألسنتهم. الطريق الرابعة: أن يخالط الناس، فكل ما رآه مذموماً فيها بين الخلق، فليطالب نفسه به وينسبه إليه، فإن المؤمن مرآة المؤمن فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه، ويعلم أن الطبائع متقاربة في اتباع الهوى، فما يتصف به واحد من الأقران، لا ينفك القرن الآخر عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شيء منه، فليتفقد نفسه ويطهرها من كل ما يذمه من غيره.
وهذه الطرق الأربع إن تأملها الإنسان بعين الاعتبار، انفتحت بصيرته، وانكشفت له علل القلوب وأمراضها وأدويتها بنور العلم واليقين (الجواني). 
وكأن بعثمان أمين يجد في الغزالي ضالته فيما يحاول الكشف عنه من الفرق بين (البراني) و(الجواني) وشتان بين مقاييس هذا، وذاك، وما أوسع الهوة التي تفصل بين المعرفة البرانية التي تتعلق وترتبط بالمكان، وبين المعرفة الكشفية الجوانية، تلك التي ليس لها محل إلا القلب.
يتضح من كل ما سبق أن جوانية عثمان أمين فلسفة تحاول أن ترى الأشخاص والأشياء رؤية روحية، فتلتمس (الباطن) دون أن تقنع (بالظاهر)، وتبحث عن (الداخل) بعد ملاحظة (الخارج). والطريق إلى ذلك هي تقديم (الذات) على (الموضوع) والفكر على الوجود، والإنسان على الأشياء، والرؤية على المعاينة. وعليه فإن الجوانية تطلب الحقيقة فيما وراء الواقع بقوة روحية تستحث الإنسان على الابتكار المتجدد الواعي والسعي الموصول إلى ما ينبغي أن يكون، مستندة على تزكية الوعي الإنساني، وساعية إلى تعميق فهمنا للمقاصد والمعاني والقيم، وتضع لنا مبادئ عاملة لتربية جدية، فتوقظ الشعور الوطني في أبناء الأمة.

  منقول من موقع المجلة العربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق